كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر. سواء مع الرسول أو مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفراداً أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله. يقررها في كلمات.
{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}..
هكذا في إجمال. فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه. أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء. لهذا ترك الأمر مجملاً، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذا التفصيل يطول، وهو غير مقصود، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع.. ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
{ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}..
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب. وهم أولو الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب.
{والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم}..
والصبر ألوان. وللصبر مقتضيات. صبر على تكاليف الميثاق. من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد.. الخ وصبر على النعماء والبأساء. وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر. وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور.. وصبر وصبر وصبر.. كله ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس: جذعوا. ولا تجملاً ليقول الناس: صبروا. ولا رجاء في نفع من وراء الصبر. ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع. ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله، والصبر على نعمته وبلواه. صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع..
{وأقاموا الصلاة}..
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله، ولأنها الصلة بين العبد والرب، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه.
{وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية}.
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق. ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة. والتي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغل؛ وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله. والإنفاق سراً وعلانية. السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان. والعلانية حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ويطاع القانون. ولكل موضعه في الحياة.
{ويدرأون بالحسنة السيئة}..
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله. ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة. فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير؛ وتطفئ جذوة الشر، وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية. فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيباً في مقابلة السيئة بالحسنة وطلباً لنتيجتها المرتقبة..
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي.
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالباً في المعاملة الشخصية بين المتماثلين. فأما في دين الله فلا.. إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم. والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم. والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب.
{أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}..
{أولئك} في مقامهم العالي لهم عقبى الدار: جنات عدن للإقامة والقرار.
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم. ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم، وتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان.
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم، في حركة رائحة غادية:
{يدخلون عليهم من كل باب}..
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضراً وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافاً أطوافاًً:
{سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}..
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام.
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا. ولا بصيرة لهم فيبصروا. وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب:
{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}..
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي؛ وينقضون من بعده كل عهد، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس.
الذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق. ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سراً وعلانية ودرء السيئة بالحسنة. فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد.
{أولئك}.. المبعدون المطرودون {لهم اللعنة} والطرد في مقابل التكريم هناك {ولهم سوء الدار} ولا حاجة إلى ذكرها، فقد عرفت بمقابلها هناك!
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم. مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء. ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض، وهو الذي أعطاهم إياه:
{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}..
ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق، ومن هو أعمى. فالآن يحكي السياق شيئاً عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون، والذين لا يكفيهم هذا القرآن، فإذا هم يطلبون آية. وقد حكى السياق شيئاً كهذا في شطر السورة الأول، وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذراً والآيات عند الله. وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال. ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله، لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها. هذا القرآن العميق التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض، ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية. وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم، وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم، وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين:
{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب}..
{كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}..
{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد.
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}..
إن الرد على طلبهم آية خارقة، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان، فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس:
{قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}..
فالله يهدي من ينيبون إليه. فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلاً لهداه. والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال، فيضلهم الله. فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد..
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة. في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام:
{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله}..
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق. بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير. وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء. وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:
{ألا بذكر الله تطمئن القلوب}..
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله. يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفرداً بلا أنيس. فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنة لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود. ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريداً وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكناً إلى الله، مطمئناً إلى حماه، مهما اوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
{ألا بذكر الله تطمئن القلوب}..
هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة:
{الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب}.
طوبى (على وزن كبرى من طاب يطيب) للتفخيم والتعظيم. وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة..
أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات. ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريباً، فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل. فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله:
{كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}.
والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن، العظيم الرحمة، الذي تطمئن القلوب بذكره، واستشعار رحمته الكبرى. وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، فلهذا أرسلناك. فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده، وأنك تائب إليه وراجع، لا تتجه إلى أحد سواه.
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض. أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات. ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين:
{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد}..
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته. فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟!
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره. طبيعته في موضوعه وفي أدائه. طبيعته في حقيقته وفي تأثيره.. إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى. وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات!